بيوت بغداد القديمه

[b][font=Arial Blackالمحلة التي تربيت فيها تذكرني باحلى ايام الطفولة خلال النصف الثاني من عقد الاربعينات المنصرم عندما كنت انفح فلساً واحداً لاسرع الخطة الى "هدية" هكذا كان اسم المرأة العجوز بائعة الحلويات في شارعنا بمنطقة باب الشيخ أو "الشيخ عبد القادر الكيلاني" أو تراني اقبض على الفلس بقوة كي لا يضيع مني مهرولاً الى عم عبد الرضا بائع "شعر بنات" و"المكاوية" و"السمسمية" و"بيض اللكلك" و"اللوزينة".. اقف حائراً لبعض الوقت فيما اختار مما معروض امامي من هذه الاصناف، واخيراً يقول خذ من هذه ليضع قطعة على ورقة سمراء وياخذ الفلس من يدي ويدفعني من ظهري برفق لكي اجري الى البيت بما حملني اياه..

كان امام دارنا بيت "حبيبة" زوجة الحائك عم عبد المنعم، كنت دائماً ما أدلف من الباب الى "المجاز" الممر الذي يقضي الى حوش الدار وعلى يميني تقع غرفة الحياكة التي نصبت فيها "الجومة" تتخللها الخيوط طولاً وعرضاً، وكان عم عبد المنعم يحركها برجليه ويداه ترتبان النسيج، كان يراني من خصائص الشباك المطل على "المجاز" ويبتسم لي ليعلمني انه يراني، فأخرج راكضاً خوفاً من صراخه برغم طيبة قلبه..

تذكرت مرة ان والدتي رحمها الله كانت تصطحبني معها الى حمام النساء كل يوم جمعة، وكانت تأخذ معها سلة تضع فيها الملابس النظيفة، وفي اسفلها ثمرات الرمان والبرتقال والليمون الحلو، وكانت معنا عمتي واخوتي الصغار، ما ان دلفنا الى الحمام حتى نشبت مشادة كلامية حادة بين والدتي وعمتي من جهة وبين صاحبة الحمام "سعدية" من جهة ثانية، وبعد تدخل النسوة اللاتي اقنعنها بأنني ما زلت صغيراً وبأنها المرة الاخيرة التي ستقبل فيها استحمامي في حمام النساء، فمن المفروض ان اذهب الى حمام الرجال، فعرفت انني صاحب المشكلة، فأنتابني الخجل وحينها استحممت بملابسي الداخلية بعد ان رفضت خلعها.. وعندما حدثت والدي في الامر.. ضحك وقال: اصبحت رجلاً، من الاسبوع المقبل ستذهب معي الى حمام الرجال، وعندما نخرج منه سنذهب الى محل عم "ابراهيم" لنـتناول"الهريسة" من يومها طرت فرحاً.

وفي ظل انقطاع التيار الكهربائي المستمر في بيوتنا الحالية وخاصة في فصل الصيف فأننا نكتوي داخلها بالحر القائظ لحد الاختناق، لان طراز البناء لم يأخذ في الحسبان حرارة الصيف أو برد الشتاء القارص.. بينما صممت البيوت البغدادية القديمة لتتناسب مع ايام الصيف الطويل والشتاء القصير وفي جميع الفصول ينعم فيها الانسان بالراحة من دون كهرباء واجهزة تكييف أو تدفئة.. ووفق قياسات استهدفت معرفة المناخات المحلية السائدة في محلات وحارات بغداد ومعرفة البيئة الحرارية داخل بيوتها والناتجة من تصميمها المعماري والعمراني، وتضمن: درجات الحرارة، الرطوبة النسبية، سرعة الريح، الهواء، درجة الحرارة السطوح الافقية (سطوح البيوت وارضيات الفناء والاواوين والطارمات والاروقة والغرف وسقوفها)، السطوح الشاقولية (الجدران الخارجية والداخلية والمطلة على ساحة الدار). وقيست درجة حرارة تلك السطوح في الشمس والظل وهي تتألف من مواد بنائية مختلفة (طابوق، بلاط، جص، خشب، زجاج، الخ).

ويتألف البيت البغدادي التراثي الاصيل من فنائه الوسطي الذي يعرف بأسم الحوش، وتحيط به غرف البيت وطارماته وطاراته واروقته وغرفه ومرافقه الصحية من جهتين أو ثلاث جهات أو اربعة حسب سعة البيت وامكانية ساكنيه المادية ومركزهم الاجتماعي. ومن الخارج يتكون البيت البغدادي من طابقين، طابق ارضي يكون اقل ارتفاعاً من الطابق الاول، وذلك لحمايته من اشعة الشمس المحرقة صيفاً. يتراوح ارتفاعه بين ثلاثة امتار وثلاثة امتار ونصف المتر، اما ارتفاع الطابق الاول فيكون ما بين ثلاثة امتار ونصف المتر الى اربعة امتار ونصف المتر في البيوت الكبيرة وهذا الارتفاع ناتج عن سعة الغرفة الرئيسية. وبهذا يمكن وضع طابق متوسط في الزوايا الداخلية يطل على فناء الدار وقطعة ارضه بالكاشفكان وتستعمل كغرف اضافية شتاء للنوم أو لخزن الحاجيات المنـزلية. ويتميز البيت البغدادي بسطوحه المتوزعة حول فتحة فناء الدار في الطابق الثاني والتي تستعمل للنوم اثناء الليل طوال موسم الصيف، وهناك ميزة فريدة في البيت البغدادي هي احتواؤه على سرداب وشبه سرداب واحد أو اثنين أو ثلاثة تكون حول اضلع فناء الدار التي لا تتعرض لاشعة الشمس صيفاً، وتكون ارضيتها منخفضة عن ارضية فناء الدار، وهي اكثر برودة من أي مكان آخر في البيت، واحياناً يحتوي البيت على سرداب ارضي عميق وتكون ارضيته حوالي خمسة امتار تحت ارضية الفناء ويضاء بواسطة مسميات (كوات) في ارضية الفناء. ويتميز البيت بمدخله المعوج، ومن خصائص البيوت البغدادية الاصيلة خارجياً هي تطلعية الطابق الاول، حيث تبرز ارضيته وجداره الخارجي على الازقة مؤلفة ما يسمى محلياً بالشناشيل التي تحتوي على المشبكات الخشبية.

اما البيوت الصغيرة التي تؤدي الى الدربونة الصماء أو العمياء التي لا تعطي أي منفذ، بل تؤدي الى بيوت قليلة، ان طريقة تصميم هذه البيوت تؤدي الى حماية احداها الآخر من الشمس المحرقة صيفاً ومن زخات المطر شتاء، وفيها تصميمات خاصة، مثل البادكير (لاقف الهواء) والزمبور (حفرة تكييف الهواء لحفظ الاطعمة صيفاً)، وكذلك الارض المنخفضة (الرهو) في السرداب وذلك لحفظ الماكولات وكذلك زرع اشجار البرتقال والرمان والتين والعنب والنبق والنخل والازهار ووضع نافورة ماء (شاذروان) في وسط الدار (تعرف في بغداد باسم بقجة)، هذا بالاضافة الى استعمال عناصر اخرى لتلطيف الحرارة الداخلية للبيت كقطع القماش القطني أو الكتاني أو الجادر لتغطية فناء البيت بمستوى محجر السطح، واستعمال العاقول المبلل بالماء ووضعه امام شبابيك غرف الطابق الارضي (او حتى امام باب البيت) وذلك لتبريد الهواء بطريقة التبخر.

ان البيوت البغدادية التراثية الاصيلة بكل غرفها، صممت لعدة استعمالات تتناسب مع الصيف الطويل والشتاء القصير، وفي جميع الفصول، يستعمل الطابق الارضي والسرداب صيفاًفي اوقات النهار والسطح ليلاً، ويستعمل الطابق الاول في موسم الشتاء. لذلك يكون البيت البغدادي مؤلفاً من بيتين في بيت واحد (صيفي وشتوي) اما الطارمات (الاروقة) في الطابق الاول فتستعمل للنوم ليلاً في موسمي الربيع والخريف. وهذا يدل على طابعها الانتقالي من الموسم البارد الى الموسم المعتدل ربيعاً وبعكس ذلك خريفاً.

ويرجع تاريخ البيوت البغدادية الاصيلة الى العصور القديمة للحضارات السومرية والاكدية والبابلية والآشورية، كما ان مفهوم هذا النمط من البيوت استخدم في العصور الاسلامية المختلفة ومن ضمنها قصر الاخيضر وبيوت سامراء في عهد المعتصم بالله. كما ان هذه البيوت العربية والاسلامية التراثية الاصيلة وتصميمها بجميع اشكالها وواجهاتها، ما هو ألاّ الانعكاس في العمارة والعمران للعوامل المناخية وللظروف البيئية السائدة، ان هذه البيوت ملائمة للاقاليم المناخية الحارة والجافة في البلاد العربية والاسلامية وغيرها من بلدان العالم.






منقول من موقع البيت الاخر . بقلم سامي العبيدي